———————————————-
ما كنت امرأة من طوبٍ
تتسلى في حلبات الصّدْ
*
قلبي .. فنانٌ أميٌّ
يتحدث كلّ لغات الودْ
*
روحي .. تركيبة سحّارٍ
من خمر التّوت و عطر الرّندْ
*
يحملها جسدٌ ماويٌّ
يلتفُّ على خصر السُّكر
و يحلّي مثل هريسة وردْ
*
أمَّا بعدْ ...
*
قد عاد هواك يذكِّرني
بالجَزْرِ العالقِ عندَ المدْ
*
و تقولُ: أحبّك يا امرأةً
ترسمني تحت قصيدتها
لتخبّي القصدْ
*
استفتي قلبكِ واستمعي
لعيوني حين يجوِّدها
ترتيل الوجد
*
هل حقاً عدتَ لتفصلني
عن جو البعدْ!
*
أغداً ألقاك وماضينا
يلتهم الحاضر قبل الغدْ
*
اشتقتُ إليكَ فعلِّمني
ألّا أشتاق لهذا الحدّ
*
فالشّغف مزاج يلبسني
في عز الحرِّ و أخلعه
في عز البردْ
*
و أنا لا أعرف لي حجماً
يتّسع له قفصٌ في صدرك
يقفلني ...
بخلاف الوعدْ
*
كوّمَنا العمرُ و دحرجنا
في رمية نَردْ
*
أشبعتك حظّاً و نجاةً
لكنّك ... وغدْ
*
و تقول : أحبّك يا امرأةً
عيناها تاريخ يغلي
بالقتل العمدْ
*
زيديني عشقاً و ارتكبي
ما شاء غرامك أن يحيا
منتصر العهدْ
*
أغرب عن قلبي يا ولدي ...
اغرب عن قلبي يا ولدي ...
فأمامَك مدنٌ زاهدةٌ
بالحبّ و يلزمها بطلٌ
يستخرجها من هذا الزهدْ
———————————————-
تُعدُّ قصيدة "هريسة وردْ" للشاعرة ربا أبو طوق واحدة من الأعمال الأدبية المميزة التي تستحق الوقوف عندها من زاوية نقدية. تجمع القصيدة بين عمق البناء اللغوي وجماليات التشكيل الفني، مما يبرز تميزها وتفرّدها في عالم الشعر العربي الحديث. من خلال تناولها لموضوعات الحب والخداع، تفتح القصيدة أبواباً جديدة لفهم تناقضات العلاقات الإنسانية ومعاني الحياة العاطفية.
تنطلق القصيدة من إطارٍ رمزي يغوص في تفاصيل الحكاية، لتصبح الكلمات وسيلة لاستكشاف مشاعر الإنسان وتعقيداته. تجذبنا الأبيات نحو عوالم من الأحاسيس المتضاربة بين الشغف والخيانة، حيث تصور لنا الكاتبة من خلال استخدامها الدقيق للغة، وتعبيراتها المتنوعة عن جماليات الحياة ومفارقاتها، مشاهد درامية حية. تعتمد ربا أبو طوق على تلاعب لفظي يخدم السرد الشعري، ويضيء مغاليق الرمز في رحلة تكشف أوجه الحب غير المحكية، وتنبض بكلمات مشحونة بعواطف متدفقة، تجعلنا نعيد التفكير في معانٍ كانت تبدو مألوفة.
تتجلى في قصيدة "هريسة ورد" للشاعرة ربا أبو طوق ثيمات رئيسية تنبض بالعاطفة الإنسانية العميقة والتأمل الفلسفي في العلاقات العاطفية. تبرز أولى هذه الثيمات في التناقض الداخلي الذي تعيشه المرأة الشاعرة، حيث تصور نفسها ككيان يتأرجح بين القسوة واللطافة، عبر استخدام تعبيرات مثل "ما كنت امرأة من طوبٍ" و"قلبي .. فنانٌ أميٌّ". هذا التناقض يظهر الأنماط المتعددة للشخصية العاطفية التي تقاوم الصراعات الداخلية والواقع الخارجي.
ثيمة الحب الحزين والمطارد للذكرى تتردد في مقاطع عديدة من القصيدة، حيث تبرز مشاعر الفقد والحنين مختلطة بالتساؤلات الداخلية والشكوك. العبارة "قد عاد هواك يذكِّرني" تشير إلى صعوبة الهروب من الماضي العاطفي، والارتباط غير القابل للانفصال بالعلاقات التي لم تُكتمل. تركز الشاعرة على التوتر بين الأمل واليأس في الحب، مما يعكس السعي الوجودي للعثور على السكينة الداخلية.
يظهر التمرد والاستقلال الذاتي كموضوع آخر، كما يتجلى في جمل مثل "اغرب عن قلبي يا ولدي". بينما تظل الشخصية العاطفية مستنزفة من الواقع، تفوح من القصيدة أيضًا رغبة في التحرر والانتقال نحو حياة وجوهر جديد، بعيدًا عن القيود العاطفية والثقافة المجتمعية السائدة التي تُثقل الكاهل.
يمثل استخدام "هريسة ورد" كتعبير استعاري عن الحلاوة والمرارة في آن واحد، نوعًا من التوازن المعضل الذي تعيشه الشخصية العاطفية، مكتسبةً بذلك العمق والتنوع الذي يتيح لقارئ القصيدة العديد من التفسيرات والتأملات في المعاني الضمنية.
البناء اللغوي والتشكيلي في قصيدة "هريسة وردْ" للشاعرة ربا أبو طوق يعود إلى استخدام مكثف للرموز والاستعارات التي تضفي عمقًا وثراءً على النص الشعري. يقدم هذا البناء اللغوي صورة حية لشخصية المرأة باستخدام أساليب لغوية بليغة تتخطى الوصف التقليدي. تبدأ الشاعرة بمقولة "ما كنت امرأة من طوبٍ / تتسلى في حلبات الصّدْ"، مشيرة إلى شخصية قوية ومرنة في الوقت نفسه، تجمع بين القساوة والصلابة وبين القدرة على التكيف والمرح.
يستعمل النص التوازن بين الصفات المادية والمعنوية، حيث نشهد تداخلًا متنوعًا يجمع بين صورة القلب كفنان أمي يتحدث لغات لا تُدرك بالعقل، مما يرمز إلى الانفلات من القيود الحسية إلى مساحة المشاعر الشمولية. أما الروح فتتجلى كتركيبة ساحرية تجمع بين خمر التوت وعطر الرند، وهو ما يعكس تلاقح المألوف بالجديد، والفاتن بالغامض.
كما يظهر التشكيل البلاغي في النص من خلال بناء الجمل الطويلة التي تحاكي التغزل والشغف، وتكرار الألفاظ كما الأحاسيس المألوفة لإبراز التناقض الداخلي والتردد. "يحملها جسدٌ ماويٌّ / يلتفُّ على خصر السُّكر / و يحلّي مثل هريسة وردْ"، فيه مزج فني بين الألفاظ التي توحي بالحسية وبين الصور الشاعرية التي تربط الطبيعيات بحالات السُكْر واللذّة.
يمثل الإيقاع والتوازن الصوتي جزءًا لا يتجزأ من البناء اللغوي، حيث تعتمد القصيدة على نظام تفعيلات موسيقي يعزز الحالة الشعرية، ويُضْفِي جمالية على التكرارات الصوتية بين السكون والحركة، كما في استخدام الألفاظ المستمدة من قاموس الطبيعة لتجسيد حالات الشغف والانتظار.
تتسم قصيدة "هريسة وردْ" للشاعرة ربا أبو طوق بغموضها الرمزيّ، مما يفتح أبواب التأويل والتحليل على مصراعيها. تبدأ الرمزية مع الاستخدام المتكرر للعناصر الطبيعية مثل الورود والبحار، والتي تحمل في طياتها معانٍ عميقة تتجاوز الصورة السطحية لتلامس جوانب من العواطف والذكريات المخفية.
في البداية، ترمز "هريسة ورد" إلى مزيج من الجمال والحب المدعوم بالعذاب، حيث يدمج بين الحلاوة المتمثلة في الورد والمرارة التي تأتي من الطحن والخلط الذي قد يشير إلى التجارب المؤلمة والمُرَّة في الحب. الوردة، بجمالها ورائحتها العطرة، ترمز إلى اللحظات الجميلة والمشاعر العاطفية النقية، بينما عملية الطحن قد تشير إلى التحولات الداخلية والتضحيات اللازمة للحفاظ على الحب وتنميته.
العنصر الثاني الأساسي في القصيدة هو المجاز البحري، حيث يمثل المد والجزر في الحياة العاطفية للشاعرة، مذكراً القارئ بالدورات الطبيعية وعجز الإنسان عن السيطرة عليها. الطبيعة الحركية للمد والجزر تعبر عن التقلبات في العلاقات الشخصية، عن القرب والبعد، الحب والفراق، مما يعكس مدى تكرار هذه التجارب في حياة الإنسان.
علاوة على ذلك، تلعب الرمزية دورًا مهمًا في الكشف عن التناقضات في مشاعر الحب والخداع، وكيف يمكن للحب أن يكون، في آن واحد، مصدرًا للغذاء الروحي ومطحناً للقلب. الكلمات التي تتحدث عن الروح والجسد، مثل "روحي" و"قلبي"، تضفي على النص بعدًا روحانيًا وفلسفيًا، مما يجعلها رحلة ذاتية نحو فهم الذات والآخر.
بهذا، تتجاوز قصيدة "هريسة وردْ" الشكل التقليدي للقصيدة الغنائية لتصبح سردًا شعريًا متشابكًا بالرموز التي تستدعي تجارب إنسانية مشتركة ومتعددة الأبعاد، مما يمنحها قوة تعبيرية وتأثيرًا عميقًا على المتلقي.
في قصيدة "هريسة وردْ" للشاعرة ربا أبو طوق، يتجلى الموضوع المركزي للتلاعب بين الحب والخداع بطريقة بارعة وعميقة. الابتداء بأبيات مثل "يقول: أحبّك يا امرأةً / ترسمني تحت قصيدتها / لتخبّي القصدْ" تُبرِز الشاعرة تجربة الحب وكأنها معركة خفية، حيث تُطبخ الكلمات لتواري الحقيقة بدلاً من الكشف عنها. هذا الاستخدام للغة يعزز الشعور بالخداع الذي يتلون بجمال الشكل الشعري، حيث تصبح القصة ذاتها مثارًا للتساؤل عن صدق العاطفة ومحاولة الكشف عن النوايا المستترة خلف الأقوال المُزودَة.
من خلال التلميح إلى "حول الخصر" و"هريسة ورد" كمزيج بين الحلاوة والغموض، تدرج الشاعرة تعقيد العلاقات العاطفية وتبيّن كيف تعيش العواطف حالة من التناقض بين الشغف والزيف. التلاعب هذا يصل إلى ذروته عند تقديم القلب كفنان "أميّ" يتحدث بلغات الحب، وكأن الفكر العاطفي لدى المُحب ينقصه الوعي أو الحكمة، مما يُولِّد حالة من الصراع الداخلي بين ما يُقال وما يُعاش فعليًا.
أحدى النقاط البارزة هي جدلية الشغف والبعد، حيث نجد أن الشغف يُعرض كـ"مزاج يلبسني / في عز الحرٍّ وأخلعه / في عز البردْ". هذا التوصيف يُحاكي طبيعة العلاقات المتغيرة والغير مستقرة، ويحيي سؤالًا حول مدى صدق الاحتياج العاطفي؛ هل هو حقيقي، أم هو مجرد لحظة تشبع تنتهي ببدء البرد العاطفي؟
أخيرًا، العبارة "لكنّك ... وغدْ" تكشف الوعي الذي يأتي بعد اكتشاف الخداع. تقدم هذه اللحظة كأعمق نقطة في الصراع العاطفي، حيث يصل المحب لإنهاء معركته مع الخيانة بإعلان الحقيقة، حتى وإن جاءت متأخرة. الأبيات توحي بأن الحب في القصة يحمل الق صد في طياته، وان التلاعب بالكلمات ليس إلا انعكاس للتلاعب الحقيقي بالعواطف.
الرمزية الصوفية في قصيدة "هريسة وردْ" للشاعرة ربا أبو طوق تتجلى بوضوح من خلال استخدام الشاعرة للرموز والدلالات التي تعبر عن الجانب الروحي والباطني للإنسان. يتجسد هذا في المقطع الذي تقول فيه: "قلبي .. فنانٌ أميٌّ، يتحدث كلّ لغات الود"، حيث تُبرز الشاعرة مفهوم القلب الصوفي ككيان قادر على التفاعل مع العالم الروحاني من خلال الود والمحبة. يُشير هذا التصوير إلى قدرة القلب على تجاوز الحدود المادية، واستيعاب اللغات الروحية النقية، وهي سمة صوفية تتسم بالقدرة على التواصل مع الكل في وحدة متكاملة.
رمز "روحي .. تركيبة سحّارٍ من خمر التّوت وعطر الرّندْ" يُعبر عن رحلة الروح في البحث عن الكمال والانغماس في حالة من الانسجام الكوني. الخمر وعطر الرند هنا رمزان كلاسيكيان في الأدب الصوفي يُستخدمان للدلالة على التجارب الروحية المكثفة وحالة الانتشاء الروحي التي تجلبها الصلاة والتأمل. يتمثّل الجسد الماويّ الذي "يلتفّ على خصر السكر ويحلي مثل هريسة وردْ" في الوحدة بين الروح والجسد ضمن التجربة الصوفية، حيث تأتي حلاوة الروح من الانغماس التام في الحب الإلهي والعشق المقدس.
تتداخل هذه الرموز مع بعضها البعض لدعم تصوير الشاعرة للرحلة الروحية بطابعها الصوفي، مستخدمة اللغة الشاعرية لتقديم رؤية غارقة في التأمل الداخلي. هذه الرمزية الصوفية تسهم في الكشف عن الأبعاد العميقة للعاطفة الإنسانية، حيث يتحول الجسد إلى وعاء يُحمل روحه السامية ويمتلئ بسر العلاقات الروحية. من خلال هذه الرمزية، تسعى الشاعرة إلى الدعوة لاستكشاف عمق الروح البشرية واندماجها في أفق الصوفية الشاعرية.
التفاعل بين الذات والآخر يظهر بشكلٍ مُبرز في أعمال الشاعرة ربا أبو طوق، حيث يُمَثِّل هذا التفاعل خوانق وجودية تبحث عن هوية وكيان خاصَيْن. في قصيدتها "هريسة وردْ"، تتجلى العلاقة بين الذات والآخر من خلال محاور متعددة، منها التوق إلى الذات الحقيقية بعيدًا عن تقييمات الآخرين ومحاكماتهم. هذه الذات ليست تقليدية أو مصنوعة من المواد العادية لصبارة الطين، بل هي كيان خلاق يتألف من فنان أميّ، وروح ساحرةٍ، وجسد يحمل دلالات شخصيةً عميقة.
الآخر، في هذه الأعمال، ليس مجرد طرفٍ ثانوي، بل هو جزء لا يتجزأ من البحث الذاتي. يتجسد الآخر في القصيدة كشريك تُرسم حوله مشاعر الحب والشغف، وكعنصر يُساهم في بناء الذات ومعرفة حدودها. التفاعل بين الذات والآخر يتخذ في أعمال ربا أبو طوق بُعدًا نفسيًا وميتافيزيقيًا حيث يتجاوز الحدود الواقعية ليصل إلى أبعد من العلاقة الإنسانية المجردة؛ يصبح الآخر مرآةً تعكس الذات بتعقيداتها وشدائدها وعذوبتها.
بهذا، تستدعي الشاعرة أسئلة جوهرية حول الفهم الذاتي وفهم الآخر، مما يساهم في إنضاج عملية الإدراك الحسي والروحي للوجود. النقاط المشتركة بين الذات والآخر في أعمالها تُظهر ارتباطًا عاطفيًا لا يُفصل، يتميز بالتعاطف والتتال. هذا التشارك والتفاعل يتمثل في الجسمانية الشعرية للدلالة وتكوين معنى يحمل العمق والصدق العاطفي.
ربا أبو طوق، باستخدامها الرقيق للغة والرمزية، تحدد حدود التواصل بين الذات والآخر، وبهذا، تكون قادرة على استخراج المعاني الغنية من العلاقة المتقلبة والمتواصلة بين الكيانين.
يمكن اعتبار قصيدة "هريسة وردْ" للشاعرة ربا أبو طوق تصويراً بارعاً لتناقضات الحياة والعلاقات العاطفية بتشكيل لغوي غني ورمزيات متدفقة. تبرز الشاعرة قدرتها الفريدة على ربط الصور الشعرية بالإحساس الباطني، مما يخلق تفاعلاً ديناميكياً بين الكلمات والمعاني. نرى من خلال الكلمات مثل "ما كنت امرأة من طوبٍ" و"قلبي .. فنانٌ أميٌّ" التجسيد العميق لتجارب المرأة التي تسعى لأن تكون أكثر من مجرد دور اجتماعي بل عالماً من الأحاسيس والرؤى.
يبدو أن الشاعرة تتلاعب ببراعة بين موضوع الحب والخداع، مما يعكس العمق النفسي لعلاقات معقدة تتطلب تقصياً وتأملاً. دعوات الشاعرة مثل "استفتي قلبكِ واستمعي" و"اشتقتُ إليكَ فعلِّمني" ليست مجرد كلمات، بل هي محاولة للغوص في أعماق الذات الإنسانية بحثاً عن الصدق والصفاء. تتركنا القصيدة نساء ورجالاً أمام مرآة تعكس لنا صوراً من أنفسنا التي ربما لم نكن ندركها، وتجعلنا نفكر في مفهوم الحب وتعقيداته في حياتنا المعاصرة.