ربا أبو طوق
2 قراءة دقيقة
20 Oct
20Oct

كتبت الشاعرة ربا أبو طوق

فصام شرقي

———————————————-

أغراكَ وجدُكَ بالتجنُّدِ بيدقاً
ونسيتَ أنَّ الحبَّ لعبتهُ البيادق ْ
من أين جئتَ لكي تثورَ
على غبارِ الشَّرقِ تجتاحُ النَّدى
و تبوسَ خدَّ الورد
في رحمِ الشَّرانق ْ
~
من أنتَ كي تنشقَّ
عن عفن الثوابتِ
في تقاليد الأُلى
و ترشَّ دربَ الحالمين بغيمة ٍ
نتشتْ على أوبارها
حزمُ السَّواسنِ و الزنابق
~
لا لستَ تملكُ من شرودك خطوةً
نصبوا لمعصمكَ الشِّراكَ
فلا مفرَّ من المرور
على سفوحِ الجمرِ
و الدَّنيا حرائق ...
و غداً نراك معلَّقاً
من رمشِ عينكَ يا شقيُّ
مرنّحاً بين الجرائدِ و المشانق ْ
هل غاب عقلُك
كي تجاهرَ بالهوى
و الكلُّ يجري خلفَ ظلِّكَ غاضباً
و يصيحُ ... سارق !
~
هذي المدينة شعبُها ...
يبكي على بطلينِ
في فلمٍ تجاريِّ الرُّؤى
و يكيدُ في وضح النَّهارِ
لرجفةٍ من قلب عاشق ْ
هذي المدينة شعبُها
يلتفُّ كالخفّاش
حول مشاهدٍ حمراء
بثَّتها ... قذارات الدُّمى
و يصيدُ أيَّ حمامةٍ بيضاءَ قد
عبرت خيال العابرين
بلا وثائق ْ...
هذي المدينة شعبها
جِلْفٌ ... رُومنسيٌّ ... منافق ْ ..
~
فاهرب إلى شجن القصائدِ
و احتمي بمجازها
سجِّل على الحيطان ِ
أنَّك مغرم ٌ
و ليهدموا تلك الحروف
كما يشاء الجرح
في لغة المطارق
~
اهرب فهذا الليل لن ينجيك َ
من حرس المذاهبِ و الحدودْ
حتى النجوم
إذا دعتك لمفرقٍ
يهديكَ ثمّ تسيل من كفَّيهِ
آلاف المَفارق ْ
~
اهرب إلى حضن الوسائدِ
و اختل ِ بالدّمع
حتى ينتهي ملحُ الوداع
على يديكَ
و يهتفوا :
عاش المُفارق روحَهُ
عاش المُفارقْ

———————————————-

بقلم ربا أبو طوق

———————————————-

دراسة نقدية أدبية للقصيدة الشعرية(فصام شرقي) - الشاعرة ربا أبو طوق

———————————————-

تُعَدّ قصيدة "فصام شرقي" للشاعرة ربا أبو طوق من أبرز الأعمال الشعرية التي تعكس تجاذبات النفس الإنسانية وسط تناقضات الحضارة الشرقية المعاصرة. هذه القصيدة تبرز كرؤية شعرية ناقدة وجريئة، تتفلت من قيود التقليد لتتغنى بروح الشاعر الحائرة بين الماضي الثقيل وأحلام التحرر. فهي تحاول في أبياتها أن تُبعثر السكون بمشاهدها اللغوية المكثفة، مستعينة برموز واستعارات تُحاكي الواقع بأسلوبها الخاص، ما يمنحها القدرة على الإيحاء بأعمق الانفعالات. 

في "فصام شرقي"، تنبري الشاعرة للحديث بصراحة عن التشظي الداخلي، محاولةً تفكيك السائد من خلال كشف ضعف المظاهر الرومانسية الزائفة التي تتشح بها المدينة بمواطنيها. تتداخل في القصيدة أحداث الحياة اليومية مع قضايا الشرف والثوابت، لتبرز الحاجة للهروب إلى عوالم أقل قيودًا، حيث تجد الذات متنفسها الشعري. هذا العمل الفريد في نوعه يدعو القارئ للتأمل في ديناميكيات الهوية الشخصية والاجتماعية، ما يجعله قطعة أدبية تُلهب الخيال وتدعو للمراجعة الثقافية.

———————————————-

تحليل الرمزية في القصيدة وتأثيرها على القارئ

———————————————-

القصيدة الشعرية "فصام شرقي" للشاعرة ربا أبو طوق تجسد عالمًا من الرمزية المعقدة والغنية بالتأمل. هذه الرمزية تفتح أبوابًا متعددة للقارئ لاستكشاف تأملاته الخاصة وطرح أسئلته حول المعاني والدلالات المضمرة في النص. يعتمد البناء الرمزي في القصيدة على استخدام الصور الشعرية النافذة، مثل البيادق والسواسن والزنابق، لتصوير المعارك الداخلية والخارجية التي يمر بها الفرد المعاصر في واقع اجتماعي وسياسي ضاغط. 

الأسطر القوية مثل "أغراكَ وجدُكَ بالتجنُّدِ بيدقاً" ترسم صورة مجازية للفرد كثوري مستعد للقتال، إلا أن النهاية المتوقعة هي لعبة تُدار بواسطة قوى أكبر، مما يعكس حالة الفصام بين الرغبة في التحرر والقيود المفروضة من الواقع. استخدام الشاعرة للرمز "غبارِ الشَّرقِ" يجسد كثافة التحديات والعوائق التي تواجه كل من يسعى للتغيير. 

العناصر الرمزية تأتي لخدمة الجماليات الفكرية التي تسعى الشاعرة إلى إيصالها، فتخلق عالماً شعرياً يتطلب قراءة عميقة وتأمل مستفيض للتماهي مع الرسائل الخفية التي تنسجها الشاعرة بمهارة. هذا التباين في الرموز ما بين الجمال المكثف والوجع الحاضر يُلقي بالقارئ في حالة من التأمل العميق حول التناقضات الحياتية التي نتعرض لها بشكل يومي، مما يجعل من "فصام شرقي" نصًا مفتوحًا يتموضع عند تقاطع معاصر مع روح شرقية تقليدية مغفرة. تظهر الرمزية كأداة شعرية قوية تسهم في جذب القارئ لميدان التأمل الفلسفي حول الوجود والدور الذي يؤديه المرء في السيرك الاجتماعي والسياسي المدجّن بالانقسامات والتحديات.

———————————————-

تحليل الرموز والاستعارات في القصيدة

———————————————-

القصيدة "فصام شرقي" للشاعرة ربا أبو طوق تحتوي على مجموعة من الرموز والاستعارات التي تسهم في خلق عمق جمالي وفكري مميز. في البداية، يُلاحَظُ استخدام مصطلحات مثل "غبار الشَّرق" و"رحم الشَّرانق" كرموز للبيئة الشرقية المحمَّلة بالتقاليد والثوابت التي تعيق الحرية وتمنع الثورة والتجديد. هذه الرموز تشير إلى فكرة التحرر من القيود الاجتماعية والثقافية التي تُثقل كاهل الذات الشاعرة. 

الاستعارة البارزة في "الحبَّ لعبتهُ البيادق" تعكس نظرة نقدية للحب والنظم الاجتماعية التي تجعله خاضعاً لألعاب وسياسات معينة، حيث يتم تصوير الأفراد كقطع شطرنج صغيرة تُستخدم لتحقيق أهداف أكبر دون إرادتهم. كذلك، يصوّر "النَّدى" و"خدَّ الورد" جوانب الجمال والبراءة في مواجهة العالم القاسي والمنافق، مما يعطي تبايناً بين العفوية والقيد، بين البراءة والخداع. 

يمتد التحليل إلى استخدام "العفن" كاستعارة للمفاهيم البالية والعقيمة التي تُسيطر على المجتمع، في حين أن "الزهور" و"الشجرات" ترمز إلى الأحلام والطموحات المقهورة التي يحاول الفرد أن ينبتها في أرضٍ غير مهيأة لاستقبالها. هذه الاستعارات تخلق إحساساً بالتحدي والمقاومة، حيث تعمل كجسر يربط بين السؤال والسعي نحو التغيير. 

كما يمكن ملاحظة أن تصوير المدينة في القصيدة يُبرز رمزية "الخفافيش" و"الدمى" و"القذارات"، مما يعكس تأثير الانحطاط الأخلاقي والاجتماعي والازدواجية في المجتمع على الذات الفردية. هذه الرموز تُعطي القصيدة بعداً تحليلياً وفلسفياً للنفس البشرية في إطار المجتمع الذي تعيش فيه، وتدفع بالقارئ للتفكير في طبيعة قيود المجتمع التي تُكبّل الروح الحرّة.

———————————————-

تحليل الثيمات والمميزات الفنية في فصام شرقي

———————————————-

تتميز القصيدة الشعرية "فصام شرقي" للشاعرة ربا أبو طوق بالعديد من الثيمات الفنية والخصائص البارزة التي تعكس عُمقًا شعريًا واستبطانًا ثقافيًا. من أبرز الثيمات التي تتجلى في هذا العمل هي الصراع الداخلي وازدواجية الهوية، مما يُبرز تأملات النفس في مواجهة مستجدات الحياة بين تقاليد الماضي ومتطلبات الحاضر. يرتبط مفهوم الفصام هنا بتباين الثقافة الشرقية والغربية، وينعكس في رغبة الذات الثائرة في التحرر من التحجر والقيود الاجتماعية التي تُحيط بها. 

على الجانب الفني، تعتمد الشاعرة على لغة غنية بالاستعارات والتشبيهات التي تُضفي على النص بُعدًا مجازيًا عميقًا. تتبدى في العبارات مثل "غبار الشرق" و"ترش درب الحالمين بغيمة" حيث تتشابك العناصر المادية مع الحسية لتُعبر عن الصراعات الداخلية والنفسية في قلب الكيان الشرقي. يشكل استخدام الأسلوب التكراري وطغيان الجمل الإنشائية جواً من الحركة المستمرة والديناميكية الشعرية، مما يعزز من وقع النص وقوته. 

تحتوي القصيدة أيضًا على عنصر المفاجأة في تحولاتها، من خلال التناقضات البارزة بين مشاهد الثورة والانعتاق وبين الواقع القاسي الذي يحيط بالمدينة والشعب، مما يُبرز التوتر الكامن في متن القصيدة ويُجسد فكرة الاضطراب. كما تُبرز الألفاظ الجريئة والمباشرة، مثل "هذي المدينة شعبها جلفٌ"، موقفًا نقديًا يُدين التظاهر الاجتماعي والازدواجية الثقافية. 

ربما يُمكن القول بأن "فصام شرقي" تُعد تجربة فريدة في الاقتراب من الذات والثقافة، حيث تتداخل الأبعاد الفردية والجماعية في نسيج لغوي متين يجمع بين القوة التعبيرية والتأمل الوجودي.

———————————————-

تحليل مفهوم الحب والحرية في القصيدة

———————————————-

في قصيدة "فصام شرقي"، للشاعرة ربا أبو طوق، يتجلّى مفهوم الحب والحرية كتراكيب متداخلة ومعقدة، تُعبّر عن رغبة عميقة لتحقيق الذات والانعتاق من القيود المجتمعية والثقافية. تُبرز الأبيات شعور البطل بالانجذاب نحو الحب كشعور جارف يدفعه للانفصال عن الواقع القاسي والمحدود. يظهر في استخدام الشاعرة لعبارة "أغراكَ وجدُكَ بالتجنُّدِ بيدقاً" كيف يُقنع الحب الإنسان بالدخول في مغامرة، ربّما محفوفة بالمخاطر، كالمُجند الذي يتسيّر نحو مصيره، غير أن الحب يتلاعب بالعاطفة كالبيادق في عصر الرومانسية. 

وتستكشف الشاعرة الحرية عبر رمز الرفض والتمرد، حيث تنادي الذات للثورة على "غبارِ الشَّرقِ" والابتعاد عن الرتابة التي يحكمها "عفن الثوابتِ" والتقاليد القديمة. هنا، يُصوّر الحب والتحرر كقاطرتين غير منفصلتين، حيث يصبح الحب ذاته وسيلة للتحرر من ربقة الماضي وعادة النمطية الموروثة. 

تعبّر الأبيات عن تشبث الأفراد بوعيهم الذاتي المرتبط مباشرة بالحب كحالة من الانعتاق الشخصي، مُصورةً كيف تسعَى الذات لترك الأثر والتغيير رغم العقبات، من بينها نجدة الحالمين ونشر الأمل "بغيمةٍ" تُفيض بالزنبق. فالحب هنا ليس مجرد علاقة بين أفراد لكنه حالة ثورية تطالب بالنقاء والتجديد والتحرر. في عالم الحب، يصبح الإنسان جريئًا طموحًا في تحرره، متخطياً حواجز مجتمعه، متحدياً السائد ليُعلن تحرره واستقلاله الشخصي. أجمل ما في هذا التداخل بين الحب والحرية هو تعزيز الإحساس بالفردية والانفكاك عن ما يُرضي الجماعة لاختبار توهج الذات والاستقلال.

———————————————-

التجديد والتمرد على التقاليد في الشعر الكلاسيكي

———————————————-

تُعتبر القصيدة الشعرية "فصام شرقي" للشاعرة ربا أبو طوق مثالًا حيًّا على التحول الجريء في إطار الشعر العربي، حيث تؤكد القصيدة على التمرد على التقاليد الشعرية المتعارف عليها والتي سادت لفترة طويلة. في هذا العمل، لا تقتصر الشاعرة على استنساخ الأطر النموذجية للنظم الشعري، وإنما تسعى إلى تأسيس أسلوب جديد يرتكز على استخدام النص الشعري كوسيلة للتعبير عن المشاعر والأفكار بطريقة أكثر انسيابية وتحطيمًا للقيود التقليدية. 

النص يعبر عن رؤية تستهدف كسر القيود المفروضة على الأشكال الشعرية الكلاسيكية، حيث تبتعد الشاعرة عن الأوزان والقوافي التقليدية، لتتيح حرية أكبر للتعبير عن الذات والمعاناة الداخلية. يُلاحظ أن "فصام شرقي" تحقق توازنًا بين الوضوح والغموض، وتستخدم لغة عصرية تدعو إلى التفكير والتساؤل، مما يعبر عن تجربة شخصية متفردة ويطرح تساؤلات وجودية تطال هوية الفرد والمجتمع. 

يتضح في القصيدة ميلٌ واضح لتحطيم المعتقدات الجامدة والطعن في الثوابت السائدة. تعتمد الشاعرة أسلوبًا تحرريًا، يتجلى من خلال تعاملها مع اللغة كأداة لتحدي القوالب النمطية والانتقال إلى مناطق روحية وفكرية جديدة. هذه الثورة الشكلية والموضوعية تشير إلى رغبة عميقة في تجاوز الحدود والبحث عن فضاء رحب يتيح للشاعـرة والشخصية المتحدثة استكشاف الذات بكل جرأة. 

التجديد في هذا العمل لا يأتي فقط في الشكل بل يتعدى ذلك إلى المضامين؛ إذ تسعى الشاعرة إلى خلق نص يبث نبضًا معاصرًا، ويوازن بين الهموم الداخلية للعقل الجمعي ومعاناته، مستخدمةً الأنماط الأدبية كمرآة تعكس صور الواقع والتطلعات الكامنة في النفوس.

———————————————-

التمدُّد السردي وتحطيم القوالب التقليدية في فصام شرقي

———————————————-

في قصيدة "فصام شرقي"، تقدم الشاعرة ربا أبو طوق تجربة شعرية خارجة عن القوالب التقليدية بتفعيل واضح للتمدُّد السردي. يتمثل هذا التمدد في الطريقة التي تمزج فيها بين السرد والوصف، حيث تتحول المقاطع الشعرية إلى لوحات سردية تقرأ في اللحظة ذاتها تفاصيل الواقع وتترك للقارئ حرية تخيُّل صور متعددة بداياتها مفردة أحياناً ونهاياتها مفتوحة تستدعي التأمل والتفكير. 

تتحقق هذه السردية في استخدام الشاعرة لأسلوب التعدد الزمني والمكاني، فتأخذ القارئ في رحلة عبر أبعاد مختلفة من النص الشعري. تتصل وتشابك بفعل القص تارة والترميز تارة أخرى. يتجلى ذلك في تحول القصيدة بين مشاهد الفعل الفردي والحدث الجماعي، حيث تقوم المقاطع الشعرية بالانتقال من الذات الشاعرة المتأملة إلى استحضار صور اجتماعية وثورية، وكأن الأبيات تحتفظ بقوة سياق سردي بعين القارئ. 

فضلاً عن ذلك، تُحطّم الشاعرة القوالب التقليدية للقصيدة الكلاسيكية من خلال تجاوز ثنائية المقدمة والنتيجة المعتادة في الشعر، الذي طالما اعتمد على تمهيد وبناء ثم ذروة. هنا، تنقسم القصيدة إلى مقاطع انسيابية تفاجئ القارئ بامتدادات غير متوقعة، مثل الانتقالات من الأفعال الحركية التي تجتاح المكان كمشهد البطلين في فلم تجاري إلى وصف أدق للعلاقات والمعاني الكامنة بين السطور، ما يفتح باباً واسعاً للشواهد الثقافية والاجتماعية. 

باختصار، تشكل هذه القصيدة بذاتها تحدياً لما هو معروف وسائد في أنماط القصيدة الشعرية، حيث توفر للشاعرة مساحة يتجاوز فيها النص كسرد بسيط إلى فن معقد ومبتكر، يحمل في طياته الكثير من الأسئلة والإجابات الضمنية التي تتطلب قراءة متعددة الأبعاد لفهم عمقها وأصالتها.

———————————————-

تصوير المدينة ومعاناة الذات الشاعرة

———————————————-

في قصيدة "فصام شرقي" للشاعرة ربا أبو طوق، تصوَّر المدينة ككيان معقَّد، تتعايش فيه تناقضات صارخة، تجسِّد معاناة الذات الشاعرة وسط مجتمع يغرق في الازدواجية والنفاق. تُظهر القصيدة المدينة كفضاء مزدحم بأناس يعيشون في حالة من الانفصال عن البراءة والرومانسية، حيث يتجلى ذلك من خلال تصويرها لشعب المدينة الذي "يبكي على بطلينِ في فيلمٍ تجاريِّ الرُّؤى"، مشيرة إلى انغماسهم في ترفيه سطحي بينما يتجاهلون القيم العميقة والحقيقية. 

تجربة المعاناة تتعمق حيث ترى الشاعرة المدينة مكاناً يلتفُّ حوله الناس كخفَّاش مظلم، يستهلك مشاهد عنيفة، ويُظهر سلوكاً عدوانياً تجاه أي شيء نقي، مثل "الحمامة البيضاء" التي تُصاد عند مرورها "بلا وثائق". تبرز هذه الصور قوة النقد الموجه إلى مجتمع يقمع الحب والصدق، ويختبئ وراء التقاليد العتيقة والقيم الصناعية، مشيرة إلى شعب المدينة بوصفه "جِلْفٌ ... رُومنسيٌّ ... منافق". 

تعكس معاناة الذات الشاعرة إدراكها للاختناق النفسي بين هذه الديناميكيات المزدوجة، صراعها الداخلي المتواصل مع التناقضات المجتمعية، والتحديات التي تواجهها في سعيها للرومانسية والحقيقة في بيئة تفتقر إلى الأصالة والعاطفة الصادقة. القصيدة، عبر هذه الصور، تظهر كيف تكون المدينة سجناً روحياً للذات الشاعرة، حيث تدفعها هذه المدينة للنزوح إلى عالم الشعر والمجاز كملاذ آمن، هرباً من براثن زيف الواقع، والاستجابة لنداء الذات في الاحتفاظ ببراءتها وجوهرها الأصيل.

———————————————-

دور الغربة والتمرد في تشكيل هوية الذات في القصيدة

———————————————-

تتجلى الغربة والتمرد كعنصرين محوريين في تشكيل هوية الذات في قصيدة "فصام شرقي"، حيث تستدعي الشاعرة ربا أبو طوق هذه الثيمات لتصوير الصراع الداخلي الذي يعيشه الفرد في مواجهة محيطه الثقافي والتقليدي. تنطلق القصيدة من إحساس بالغربة الذي يتجاوز الحيز الجغرافي ليصل إلى شعور متأصل في الروح يشعر به من ثم أن يتحدى النظم السائدة. يظهر التمرد كحركة ديناميكية تعبر عن رفض الذات للخضوع للأعراف الجامدة والانفصال عن الموروث غير المرغوب. 

الغربة تتبلور في الشعور بالتناقض بين الحلم والواقع، حيث تشعر الذات بالانفصال عن بيئتها الاجتماعية، وهي بيئة تعاني من "عفن الثوابت" وقيود المجتمع. هذا التباين يعبر عن حالة من الاضطراب الوجداني والانشقاق النفسي الذي يعايشه الأفراد المثقلون بالتطلعات المتصادمة مع الهياكل التقليدية. إلى جانب ذلك، يرتبط التمرد في القصيدة بالسعي نحو الحرية والاعتراف بالذات في وجه الضغوط المجتمعية، وهو ما يظهر في تصوير احتجاج الذات المستمر ضد هذه القيود. 

تنسج القصيدة علاقة قوية بين التمرد والغربة، حيث تبدو تلك الغربة كقوة دافعة تدفع الذات للتمرد والبحث عن هوية حقيقية تع عن تطلعاتها وأحلامها. تنمو هذه الهوية الجديدة وسط قوى الرفض والمقاومة، لتشكل كيانًا منفردًا بعيدًا عن الأعراف السائدة، وبذلك تعزز القصيدة من أهمية وعي الذاتي في مواجهة غربة الذات عن المجتمع من خلال إعادة تشكيل الفرد لهويته بشكل واع ومستقل.

———————————————-

دور المجتمع والتحولات الثقافية في تشكيل الهوية الذاتية

———————————————-

تلقي القصيدة "فصام شرقي" الضوء على الدور العميق الذي يلعبه المجتمع والتحولات الثقافية في تشكيل الهوية الذاتية للفرد. يتجلى ذلك من خلال تصوير الشاعرة للبيئة الاجتماعية والضغوط التي يواجهها الفرد في تلك البيئة. ففي المدينة الموصوفة في القصيدة، نجد مجتمعًا متناقضًا يتأرجح بين الرومانسية والنفاق، حيث يعيش الأفراد في ظل قيود تُفرض عليهم من قبل تقاليد عتيقة خصوصاً عندما تتعلق بقضايا الحب. 

تُظهر القصيدة كيف أن التوقعات المجتمعية والاستقامة الظاهرة يمكن أن تكون عائقًا حقيقيًا أمام تطور الهوية الفردية. الشخصيات في القصيدة تسعى للهروب من هذه القيود الثقافية، ولكنها في الوقت نفسه، تصارع المواجهات المجتمعية التي ترفض التغيير والتجديد. مثلاً، استخدام الشاعرة لعبارة "هذي المدينة شعبها ... يبكي على بطلين في فلم تجاري" يُبرز المفارقة بين الجوع للمشاعر الحقيقية التي تعكسها السينما السطحية، وبين الاضطهاد الجماعي لأي تعبير حقيقي عن الحب والهوية الشخصية. 

يُمهد هذا التناقض الطريق لفهم كيف أن التقاليد والأعراف القديمة تُقيِّد الأفراد وتحد من قدرتهم على تشكيل هويتهم الذاتية. من خلال الإشارة إلى "عفن الثوابت في تقاليد الأُلى"، تعبّر الشاعرة عن حتمية التمرد على هذه القواعد لتحرير الذات من القيود التي تفرضها. تعكس القصيدة بعمق أن الهوية الذاتية ليست مسألة فردية وحسب، بل هي أيضًا نتيجة للعلاقة المعقدة بين الفرد والمجتمع، حيث يتفاعل الاثنين في معركة مستمرة لتحديد ما يُعتبر هوية مقبولة وما هو مرفوض.

———————————————-

الهروب والانعتاق: رحلة البحث عن الذات في مواجهة القيود

———————————————-

تُجسد القصيدة الشعرية "فصام شرقي" للشاعرة ربا أبو طوق ثنائية الهروب والانعتاق كمحرك رئيسي في رحلة البحث عن الذات في مواجهة القيود الاجتماعية والثقافية. تتبلور في القصيدة صرخة الفرد الذي يسعى للتحرر من أغلال المجتمع الشرقي، حيث يتم تصوير القيود بتعبيرات قوية ومؤثرة، مثل "نصبوا لمعصمك الشراك"، لتبرز مدى السيطرة والضغط الذي يتعرض له الفرد في محاولته للانفصال عن الأعراف الثابتة. 

الهروب في هذه القصيدة ليس مجرد فرار من الواقع، بل هو رحلة داخلية نحو اكتشاف الذات الحقيقية وكسر القيود المفروضة عليها. يتجلى هذا من خلال دعوة الشاعرة للهروب إلى "شجن القصائد" والاختباء في "حضن الوسائد"، ما يرمز إلى البحث عن ملجأ داخلي يعزز الإحساس بالحرية والانعتاق الذاتي بعيدًا عن أعين الرقباء. 

التأكيد على المقاومة ضد هذه القيود يظهر جليًا في صور قوية مثل المرور على "سفوح الجمر" والمغامرة بلغات لا تأبه لسلطة الأعراف والمجتمع. تنبض القصيدة بشعور الرفض والتمرد بوجه العادات والتقاليد التي تبدو كالجدران العازلة لكينونة الفرد. 

القصيدة لا تقدم الهروب كحل دائم، بل كوسيلة لإعادة تقييم الذات والتأمل في أعمق مستويات الوجود الفردي. إنها رحلة مليئة بالتحديات لكنها تغذي الأمل بإمكانية إيجاد السلام الداخلي، بيد أن هذه الرحلة لا تأتي دون عواقب، حيث تتنبأ القصيدة بالصراع الدائم مع العالم الخارجي، مؤشرةً إلى الصعوبة في الانفصال التام عن المجتمع والتقاليد القابضة.

———————————————-

في قصيدة "فصام شرقي" تظهر الشاعرة ربا أبو طوق كتجسيد للعقل المتمرد الذي يخترق حدود التقاليد وينتقد الواقع بسخرية مريرة. تُظهر القصيدة كيف يمكن للغة أن تكون مرآة للتناقضات الحادة في المجتمعات الشرقية، حيث يواجه الفرد قيودًا قاسية تمنعه من التعبير عن ذاته الحقيقية. هنا، تتحول الكلمات إلى أدوات لكسر السلاسل، وتحويل اليأس إلى صوت قوي قادر على إحداث التغيير. 

هذا العمل يُعد دعوة للهروب من الواقع اليومي وتقبّل الأحلام والخيال كملاذ آمن، حيث تصور المدينة ككابوس مقيد. تقدم الشاعرة صورة سريالية عن الحياة الحضرية المعاصرة، حيث تُستخدم الاستعارات لإيضاح النِفاق والصراعات الداخلية التي تعيشها الذات الشاعرة. القصيدة تولّد إحساسًا بالقلق والرغبة في التحرر، مما يجعلها عملًا فنيًا يتجاوز مجرد الكلمات ليصبح دعوة للتأمل والتغيير. 

في الختام، تُعد "فصام شرقي" قصيدة تختبر حدود اللغة، وتجسد تجربة الفرد في مجتمع يخنق الحرية الفردية. بفضل القوة التعبيرية والرمزية، تُقدم أبو طوق صوت جيل يسعى للحب والحقيقة، رغم كل التحديات.

———————————————-

بقلم فادي سيدو


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.